languageFrançais

التجربة الصينية: مختبر مفتوح للتنمية.. وتونس أمام فرصة الاستفادة

الصين، ليست مُجرّد بلد بعيد جغرافيًا، إنّها تجربة حضارية متفردة، تنسُج إيقاعها الخاص في عالم يتسارع من حولها. أن تطأ أرضها هذا يعني أنّك دخلت فضاءً تتقاطع فيه آلاف السنين من التاريخ مع مستقبل يُصنع بسرعة مذهلة..

خلال خمسة أشهر قضيتها هُناك في إطار التبادل الثقافي والإعلامي، تجوّلت بين مدن وأقاليم مختلفة: بكين، شينجيانغ، تشنغدو، شنغهاي، وتشانغشا. لم تكن مجرد إقامة طويلة، بل كانت تجربة غيّرت نظرتِي لمعنى التنمية، وكيف يُمكن لدولة أن تصوغ نموذجها الخاص بعيدًا عن التقليد الأعمى للآخرين.

وفي كلّ محطّة توقّفت عندها، كنت أحمل سؤالًا واحدًا معي: ما الذي يُمكن لتونس أن تستفيده من هذا المسار؟..

بكين: العاصمة الذكيّة بين سور التاريخ وأفق المستقبل

في بكين، المدينة التي تختزل صورة الصين الحديثة، كان أوّل ما شدّني هو النظام الصحي الرقمي. دخلت أحد المستشفيات الكبرى فوجدت أن كلّ شيء يبدأ من الهاتف: حجز الموعد عبر تطبيق، دفع الفاتورة إلكترونيًا، والملف الطبي متاح للطبيب لحظة وصول المريض. لم يكن المشهد ترفًا تكنولوجيًا، بل انعكاسًا لفلسفة تعتبر وقت المواطن جزءًا من كرامته.

شبكة النقل قدّمت درسًا آخر. ركبت القطار السريع من بكين إلى شنغهاي، فوجدت نفسي أقطع مسافة تفوق الألف كيلومتر في أقلّ من خمس ساعات. في كلّ محطة مترو، وفي كلّ رحلة جوية داخلية، لمست كيف يمكن للتنظيم والدقّة أن يُحوّلا التنقل إلى تجربة مريحة بدل أن يكون معاناة يومية.

لكن بكين لا تكتفي بوجهها العصري. في ضواحيها يمتد سور الصين العظيم كرمز للإرادة البشرية، وفي قلبها تقف المدينة المحرمة كذاكرة للتاريخ. هذه المعالم لم تُترك كأحجار صامتة، بل تحوّلت إلى مصدر دخل ضخم عبر السياحة والثقافة.

في تونس، حيث الطوابير الطويلة في المستشفيات والازدحام المروري اليومي، تبدو هذه التجربة درسًا عمليًا: لا يمكن تحسين ثقة المواطن بالدولة دون إدارة ذكية ورقمنة شاملة، ولا يمكن تطوير السياحة دون استثمار جاد في التراث وتحويله إلى صناعة اقتصادية حقيقية.

شينجيانغ: الفلاحة حين تلبس ثوب الذكاء

من العاصمة، اتّجهت إلى إقليم شينجيانغ، الذي يُعرف بتنوعه العرقي وبكونه أحد أكبر الأقاليم الفلاحية في الصين. هنا رأيت كيف تحوّلت الزراعة إلى صناعة ذكية. في إحدى المزارع الكبرى، لم يكن الفلاح ينتظر المطر أو يُراقب السماء، بل يحدق في شاشة متّصلة بأجهزة استشعار دقيقة. هذه الأجهزة تقيس نسبة الرطوبة في التربة، تُحدّد كمية المياه المطلوبة، وتبرمج توقيت السقي بدقة.

النتيجة كانت واضحة: إنتاج أوفر، جودة أعلى، وكلفة أقل. التقيت أيضًا ببعض الفلاحين الذين بدأوا كتعاونيات محلية صغيرة ثم أصبحوا شركات تصدير عالمية. نجاحهم لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة دعم حكومي، حوكمة جيدة، واعتماد على البحث العلمي.

في تونس، التي تعتمد منذ قرون على الفلاحة كمورد أساسي، ما زالت طرق الري تقليدية، والإنتاج رهين الظروف المناخية. ومع أزمة المياه وتراجع الإنتاجية، تبدو الحاجة ملحّة إلى تبني تقنيات مشابهة: نظم ري ذكية، تعاونيات فلاحية حديثة، ومزارع نموذجية تعتمد على البيانات. بذلك يمكن تحويل الفلاحة من قطاع هشّ إلى رافعة للتصدير والأمن الغذائي.

تشنغدو: حين يصبح التراث مصدر دخل

في مدينة تشنغدو، عاصمة سيشوان، وجدت مثالًا آخر على كيف يمكن للتقاليد أن تتحول إلى موارد اقتصادية. مهرجان "إطلاق المياه"، الذي يعود تاريخه إلى ألفيْ عام، لم يعد مجرد طقس ثقافي، بل أصبح صناعة سياحية تستقطب آلاف الزوار وتنعش الفنادق والمطاعم والتجارة المحلية.

أما المطبخ المحلي، وخاصة "الهوت بوت" الشهير، فقد تحول إلى علامة سياحية لا تقل أهمية عن أي معلم تاريخي. مطاعم بأكملها تعيش من تقديم هذه الأكلة التقليدية، وصارت جزءًا من هوية المدينة.

في تونس، نملك ثروة تراثية وحضارية هائلة: من قرطاج إلى القيروان، ومن مهرجان الزيتون إلى أيام قرطاج السينمائية. لكن هذه الموارد ما زالت تُدار غالبًا بمنطق مناسباتي. إذا ما طُبّقت عليها عقلية شبيهة بما رأيته في تشنغدو، لأمكن تحويلها إلى صناعات ثقافية وسياحية قادرة على خلق قيمة مضافة دائمة.

شنغهاي: الجامعة كمحرّك للاقتصاد

شنغهاي، العاصمة الاقتصادية للصين، منحتني صورة أوضح عن علاقة التعليم بالتنمية. الجامعات هنا ليست جزرًا معزولة، بل جزء من النسيج الاقتصادي. في المنتدى الصيني–العربي حول التعليم، أدركت حجم الانفتاح الذي تعيشه الجامعات الصينية، إذ تستقطب آلاف الطلبة الأجانب، وتوجه بحوثها نحو تلبية حاجات السوق.

شنغهاي

المخابر الجامعية لا تكتفي بالنشر الأكاديمي، بل تعمل بالشراكة مع الشركات لإيجاد حلول عملية في الذكاء الاصطناعي والطاقات المتجددة والصناعات المتقدمة. التعليم هنا لم يعد مجرد قطاع اجتماعي، بل استثمار استراتيجي.

في تونس، حيث الجامعة ما تزال تواجه صعوبات في التمويل والانفتاح، يبدو الدرس واضحًا: لا نهضة اقتصادية دون إصلاح شامل للتعليم العالي. المطلوب هو ربط المناهج بالاقتصاد الوطني، دعم البحث العلمي، وفتح الأبواب أمام الشراكات الدولية.

تشانغشا: بوابة إفريقيا إلى الصين

في تشانغشا، عاصمة هونان، حضرت المنتدى الصيني–الإفريقي. كان أبرز ما لفت الانتباه إعلان الصين إعفاء السلع الإفريقية من الرسوم الجمركية. القرار بدا أكثر من مجرد دبلوماسية، بل خطوة عملية ستغيّر قواعد التجارة.

هذا الإعلان يعني أن منتجات مثل زيت الزيتون التونسي، التمور، والأسماك يمكن أن تجد طريقها إلى السوق الصينية الضخمة. لكن النجاح في ذلك لا يتوقف على توقيع الاتفاقيات وحدها، بل على رفع جودة الإنتاج، الالتزام بالمعايير، وتطوير قنوات التوزيع والتسويق.

العلاقات التونسية–الصينية: من التاريخ إلى الحاضر

العلاقات بين تونس والصين تعود إلى عام 1964، حين أُقيمت العلاقات الدبلوماسية. منذ ذلك الوقت، تطور التعاون تدريجيًا. في السبعينات ساهمت الصين في مشاريع بنية تحتية وصحية، وفي التسعينات توسّعت المبادلات التجارية. عام 2018 شكّل الانضمام إلى مبادرة "الحزام والطريق" محطة فارقة، جعلت تونس جزءًا من شبكة عالمية للتجارة والبنية التحتية.

اليوم تحمل هذه العلاقة مشاريع استراتيجية بارزة: مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان بكلفة 3 مليارات دينار، مركز الطب الصيني التقليدي في المرسى، تزايد عدد السياح الصينيين بنسبة 15% سنة 2025، واستثمارات مرتقبة في مجال الفسفاط والطاقة المتجددة. ومع ذلك، يبقى العجز التجاري تحديًا قائمًا، إذ تستورد تونس أكثر مما تصدر، وهو ما يستوجب مقاربة جديدة أكثر توازنًا.

تونس - الصين

آفاق تونس في ضوء التجربة الصينية

ما خرجت به من هذه الرحلة ليس مجرّد ملاحظات متناثرة، بل مسارات يُمكن أن تُشكّل حلولًا عملية لتونس:

√ الإدارة والرقمنة

رقمنة الخدمات العمومية يُمكن أن تختصر الجهد والوقت وتعيد الثقة في المؤسّسات. إطلاق منصّة وطنية موحدة تتيح للمواطن متابعة ملفاته الصحية والاجتماعية والإدارية سيكون خطوة عملية وملموسة.

√ الفلاحة والابتكار

تونس في حاجة إلى استغلال تكنولوجيات حديثة لمواجهة أزمة المياه وتراجع الإنتاجية. مزارع نموذجية تعتمد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون بداية لتحويل القطاع إلى رافعة استراتيجية.

√ الثقافة والسياحة

الانتقال من عقلية "المهرجان الموسمي" إلى "الصناعة الثقافية" هو ما يمكن أن يضاعف مداخيل السياحة. تطوير مسارات تجمع بين التراث المادي واللامادي سيجعل من الثقافة موردًا اقتصاديًا مستدامًا.

√ التعليم والبحث العلمي

لا تنمية دون تعليم قوي. إعادة هيكلة الجامعة وربطها بسوق الشغل، دعم البحث العلمي، وتشجيع التعاون مع الجامعات العالمية خطوات كفيلة بتحويل الكفاءات التونسية إلى قوة إنتاجية.

√ التجارة والأسواق الدولية

توسيع الصادرات نحو السوق الصينية يتطلب التزامًا صارمًا بالمعايير الدولية واستثمارات في البنية التحتية اللوجستية. بهذه الطريقة يمكن تحويل الاتفاقيات إلى فرص فعلية وتقليص العجز التجاري.

الصين كتجربة ملهمة

الصين التي عرفتها عن قرب ليست مجرّد بلد بعيد، بل مختبر حيّ للتنمية. ما يُميّزها أنّها لم تنسخ نموذجًا جاهزًا، بل ابتكرت مسارها الخاص. بالنسبة لتونس، الدرس الأساسي هو أنّ التقدّم ليس حكرًا على القوى الكبرى، بل خيار متاح إذا توفّرت الرؤية والإدارة والإرادة.

الرقمنة، الزراعة الذكية، استثمار التراث، إصلاح التعليم، والانفتاح على الأسواق الدولية ليست شعارات، بل خطوات عملية قابلة للتنفيذ. والانتماء إلى مبادرة "الحزام والطريق" يضع أمام تونس فرصة تاريخية لتحويل شراكتها مع الصين إلى رافعة استراتيجية تُسهم في بناء مستقبل أكثر توازنًا وازدهارًا.

كريم ونّاس